أسباب انخفاض قيمة العملات الرقمية
بعد مرور أكثر من عقد على ابتكار العملات المشفرة منذ 2009، ازدهرت هذه العملات خلال أزمة فيروس كورونا وما بعد، حتى انطلقت أسهمها لتقفز إلى عشرات آلاف الدولارات، ومنذ نوفمبر 2021 يتابع العالم الانزلاق المستمر لقيمة العملات المشفرة حيث تتأرجح قيمة “بيتكوين” العملة الأقوى بين 20 ألف دولار وما دون، محققة بذلك خسارة أكثر من 70% من أعلى قيمة لها (بعد أن اقتربت من 69 ألف دولار في 10 نوفمبر 2021). فما هو سبب تدهور سوق هذه العملات للمستوى الذي لا يمكن ضبطه أو إيقافه بعد بلوغ منتصف العام 2022, كما فقدت بعض العملات %99 من قيمتها كما يحدث مع عملة ” لونا” حالياً وغيرها من العملات المشفرة!
إقرأ أيضا:ما هي طرق وتكلفة تعدين البتكوين؟.
نمو العملات المشفرة مرهون باستقرار شبكة التمويل العالمية والسياسة النقدية للفيدرالي الأمريكي.
بالنظر إلى أسباب ازدهار أسعار العملات المشفرة منذ ربيع 2020 وتضاعف قيمتها حتى نهاية 2021، فما كان ذلك إلا نتيجة لضخ كميات كبيرة من السيولة من قبل الفيدرالي الاحتياطي الأمريكي في الأسواق المالية مما ساعد على توجه قسم من هذه السيولة لاستثمارها في سوق العملات المشفرة إلى أن ظهرت الآلاف من مشاريع التشفير بحلول العام 2021.
وبحلول نهاية العام 2021 تم سحب السيولة الفائضة استجابة للتضخم في الأسواق من قبل الفيدرالي الاحتياطي الأمريكي مما أدى إلى ابتعاد المستثمرين عن الأصول الخطرة والقائمة على المضاربة وعلى رأسها العملات المشفرة، وبدأت حالة الاستنزاف في قيمتها حتى اليوم.
إن الفيدرالي الاحتياطي الأمريكي يقوم بعمل البنك المركزي في الولايات المتحدة الأمريكية فهو أكبر المؤسسات المالية وأكثرها تأثيراً في النظام المالي العالمي أهم وظائفه الرقابة على النظام المالي والحد من الآثار السلبية للأزمات الاقتصادية.
ما أسباب تدهور العملات المشفرة حتى يومنا هذا؟
حسناً، يمكن اعتبار تدهور قيمة العملات المشفرة نتيجة أسباب عديدة مرتبطة ببعضها وبالنظام المالي العالمي مما أوقف عجلة نمو هذه العملات إلى الدرجة التي اقتربت فيها بعض العملات المشفرة للصفر، فما هي تلك الأسباب؟
- الصراع الروسي الأوكراني تسبب في زعزعة استقرار نظام التمويل العالمي.
حيث لم يكاد يتعافى النظام الاقتصادي العالمي من الآثار السلبية لأزمة فيروس كورونا التي أثرت على سلاسل الإمدادات العالمية مسببة حالة من التضخم، حتى بدأت الحرب الروسية الأوكرانية والتي أثرت بشكل مباشر على أحد أعمدة النظام المالي العالمي وهو تجارة مصادر الطاقة والمحاصيل الزراعية العالمية، مما سبب بارتفاع بأسعارها وعرقلة شبكة امداداتها نتيجة العقوبات وبالتالي أدى إلى التضخم العالمي، والتضخم بدوره يؤدي لارتفاع الأسعار بشكل مضاعف, ما أدّى إلى رفع نسب الفائدة وانخفاض قيمة العملات الأساسية كما حصل مع الدولار مما يؤدي إلى الدخول إلى حلقة مفرغة تثير التخوف من الركود العالمي.
- تخلي المستثمرون عن الأصول الخطرة
وذلك استجابة لارتفاع التضخم المستمر وتراجع السيولة عالمياً وارتفاع نسب الفائدة، مما دفع المستثمرون لاستبدال الأصول الخطرة والتي تقوم على المضاربة وأبرزها العملات المشفرة للاستثمار بأصول أكثر أماناً، مثل أن يوظف المستثمرون السيولة لديهم على شكل ودائع لدى البنوك للاستفادة من ارتفاع أسعار الفائدة.
إن قرار رفع أسعار الفائدة تتبناه البنوك المركزية مثل الفيدرالي الأمريكي وبنك إنجلترا وقريبا البنك المركزي الأوروبي بهدف مواجهة التضخم عبر زيادة عبء الاقتراض بهدف تخفيض السيولة في الأسواق، مما يؤدي بدوره إلى دفع المقترضين إلى إلغاء أو تأجيل الاقتراض لحين هبوط تكلفته (أي سعر الفائدة) وتوجيه قسم من السيولة إلى البنوك على شكل ودائع.
- أعلنت شركة سيلسيوس ““Celsius قرارها بإيقاف عمليات السحب وجميع التحويلات والمبادلات أو إقراض العملات المشفرة مؤقتًا
كان لهذه الخطوة دوراً في انخفاض قيمة العملات المشفرة بشكل مضاعف كونها الشركة الأكبر في مجال القروض للعملات المشفرة، حيث تقوم شركة “”Celsius والشركات المماثلة بعمل مشابه للفكرة الأساسية للبنوك التقليدية ولكن بالعملات الرقمية، أي تقوم بإقراض العملات المشفرة مقابل الحصول على الفائدة، واستقبال ودائع العملات المشفرة مقابل دفع فائدة، وذلك بعيداً عن أي إشراف حكومي أو بنك مركزي.
يتم التعامل في شركات إقراض العملات المشفرة بأسعار فائدة أعلى من أسعار الفائدة في إقراض العملات التقليدية قد تصل إلى أكثر من 18% وهذا ما دفع الهيئات التشريعية للدعوة إلى تنظيم مجال العملات المشفرة ووضع القوانين ودستور للتعامل المشرّع فيها.
- العملات الرقمية هشة وغير منتجة
لا ترتبط العملات الرقمية بأصول مادية أو ملكية فكرية، لا تولد تدفقات نقدية ولا تنتج أرباحاً، ويرتبط سعرها فقط بالعرض والطلب عليها الذي يتأثر بشكل حاد بحالة التشبع للسيولة عند المستثمرين صعوداً أو هبوطاً مما يجعل من الصعب تقييم قيمتها الأساسية، وهذا ما أشار إليه الدكتور “فادي عمروش” حيث كتب حول تصريح رجل الأعمال الأمريكي “وارن بافيت” عن “بيتكوين”:
- لا يمكن فهم معنى أي تصريح أو رأي دون فهم السياق العام له واستراتيجية قائله، على سبيل المثال تم تداول رفض “وارن بافيت” للاستثمار في “بيتكوين” وكأنه أمر غريب أو مستهجن أو حتى رائع، لفهم ذلك التصريح عليك معرفة رأي واستراتيجية وارن بافيت بالاستثمار أصلاً، وهي الاستثمار بأصول مٌنتجة ذات عائد دوري لشركات تصنع منتجات فهو مثلا لا يستثمر في شركات ستارت اب خاسرة وترفع قيمتها السوقية مثلا وهو ضد الذهب كشكل من اشكال الاستثمار لأنّه لا يعتبره استثماراً أصلاً ( ومعه حق طبعاً) ويقول عن الذهب أنّه أصل “غير منتج” ، فالذهب من “الأصول التي لن تنتج أي شيء أبدًا ، ولكن يتم شراؤها على أمل أن يكون هناك شخص آخر – يعرف أيضًا أن هذه الأصول ستبقى إلى الأبد غير منتجة – سيشتريها بسعر أعلى في المستقبل”
- ضمن هذا السياق والرؤية فتصريحه مفهوم وصحيح، لا يوجد عاقل يعتبر أنّ “بيتكوين” هو استثمار، فالاستثمار يعني بيع وشراء وربح من المبيعات، حتى أنّ “تيسلا” لا تعتبر حيازتها لـ “بيتكوين” بقيمة أكثر من مليار ونصف دولار أنّها استثمار وانما تعتبرها شكل من اشكال توزيع الكاش بأشكال مختلفة لحفظ القيمة.
- بهذا السياق نفهم كيف أنّ “وارن بافيت” لا يشتري بيتكوين طبعاً لعدم ايمانه أنّه شكل من اشكال الاستثمار ومعه حق بذلك، وإنّما استثمر في البنك البرازيلي “Nonbank” بأكثر من 1.25 مليار دولار وهو أحد أكبر بنوك التكنولوجيا المالية في البرازيل التي تركز على العملات المشفرة وبيتكوين.
هل هي فرصة لامتلاك العملات الرقمية بسعر زهيد؟
ربما عليك اتباع قاعدة خبراء بورصة “وول ستريت” وهي:
“Never try to catch a falling knife” أي لا تحاول أبداً أن تمسك السكين عند سقوطها، ستكون حتماً جارحة وستنتهي بشكل مؤلم، رغم أن البورصة تقوم على المضاربة وتوقع الربح الناتج عن تغير أسعار الأسهم والأصول بشكل دائم ولكن حركة الصعود والهبوط المدوّي في أسعار العملات المشفرة وبشكل سريع يجعل من الصعب دراستها أو التنبؤ بها مما يبعد شريحة كبيرة من المستثمرين عن العملات الرقمية لأنها لا تناسب مستوى الخطر المقبول للمضاربة لديهم.
كما ينصح الخبراء المستثمرين في العملات المشفرة أن يمضوا باستثمارهم بحذر شديد في ظل التوقعات باستمرار حالة التدهور في أسعار العملات المشفرة على الأقل في المدى القريب.
وأخيراً، لاشك أن مجال الاستثمار في العملات الرقمية المثيرة للجدل بات دائرة حمراء تتأرجح بين حالة الربح الساحق والسريع تلك التي جذبت الكثير للاستثمار بها، أو حالة التدهور المدوّي السريع محققة الخسائر على كافة المستويات سواء للمستثمرين الصغار أو كبار الشركاء. فهل ستؤدي تلك الأحداث الأخيرة في سوق العملات المشفرة أو الذهب الرقمي كما أطلق عليها سابقاً إلى الخطوات الأولى نحو إخضاعها للدساتير والتشريعات وذلك حفاظاً على السوق من هذه الانهيارات والخسائر؟ هل ستعود للازدهار من جديد، أو على الأقل لحالة من الاستقرار النسبي في أسعارها على المدى الطويل؟