ماذا يقصد جوردن بيترسون بتكافؤ الفرص؟
أثارت تصريحات البروفيسور جوردن بيترسون (Jordan Peterson ) في الآونة الأخيرة حول المساواة الكثير من الضجة والتساؤلات. يرى بيترسون أن تحقيق العدالة الاجتماعية لا يكون بناءً على المساواة في النتائج، بل على المساواة في الفرص؛ وهو ردٌّ يدعمه الفكر اليميني في مواجهة حركات اليسار الليبرالية العشوائية في الغرب.
فما الذي يقصده بيترسون في حديثه عن المساواة في الفرص؟
وما الفرق بين المساواة في الفرص والمساواة في النتائج؟
- المساواة في الفرص Equality of Opportunity: المنافسة العادلة على الوظائف بعيداً عن أي نوع من أنواع التمييز، وفتح المجال أمام المتقدمين إلى فرص العمل من دون النظر إلى العرق أو الجنس أو اللون أو الانتماء؛ فيكون التقييم والقبول ناتجين من المقارنة بين المؤهلات التي يمتلكها المتقدمين وكفاءة العمل الذي يقدمه كل منهم.
- المساواة في النتائج Equality of Outcome: هو تحقيق التكافؤ بين الناس في الثروة والدخل والظروف الاقتصادية بصورة عامَّة، بغض النظر عن الجدارة والكفاءات والاستحقاق.
وفي سباق التنافس الاقتصادي والاجتماعي يمكن القول إنَّ المساواة في الفرص تضمن أن الجميع سينطلقون من النقطة نفسها وفي الوقت نفسه، بينما تضمن المساواة في النتائج الوصول إلى النقظة نفسها بغض النظر عن نقطة البدء أو توقيته. وبهذه المقارنة البسيطة يمكننا فهم الخلاف الجذري بينهما؛ الذي سنبني عليه مقالنا.
لماذا لاقت فكرة المساواة في النتائج قبولاً واسعاً؟ وما عواقبها؟
ينطلق المؤيدون للمساواة في النتائج من نزعة انفعالية وبدافع عاطفي يهدف إلى امتلاك ما يمتلكه أصحاب الثروة من دون جهد أو مبادرة، بل بشعارات حقوقية توحي بالإنسانية. وهذا ما حصل حقاً منذ انطلاق حركات الدفاع عن السود وتيارات النسوية الحديثة؛ حيث بدأت المطالب بمنح الأقليات ميزات ومكافآت فقط لأنها أقليات، من دون النظر إلى الاستحقاق أو المقابل. فبدأ الترويج لفكرة أنَّ انتماءك إلى أقلية كانت مُضطَهَدة في العصور السابقة، بحد ذاته يمنحك حقَّاً في مقاسمة الآخرين ثروتهم والحصول على نفس مرتّبتهم حتى وإن كنت لا تعمل بكفاءتهم نفسها؛ وذلك لأنَّك مختلف، ولأنَّ أقليتك عانت من الاضطهاد سابقاً. فإن كنت رجلاً أسود البشرة تستطيع أن تشارك رجلاً أبيض البشرة ثروته بما أنَّ أجداده البيض قد استعبدوا أجدادك السود. وفي المقابل عملت النسوية الحديثة على الأمر نفسه؛ فكونك امرأة سيمنحك ذلك حقَّ الحصول على نفس مرتَّب زميلك (الرجل) وإن كنت لا تعملين بالجودة نفسها أو لعدد الساعات نفسه، وقد تحصلين على حوافز ومكافآت أعلى منه فقط لكونك امرأة!
توصف فكرة المساواة في النتائج عادةً بأنها “سياسة الحسد” التي تحمل في جوهرها تقويضَ المساواة من أصلها؛ فلتحقيقها يجب القضاء على التفاوت بين الناس في الأجور والثروة من خلال نقل الثروة من الأغنياء إلى الفقراء، وتدخل الحكومة لفرض هذه المساواة عنوةً وزيادة الضرائب؛ ما يعني تمهيد الطريق للسلطوية تحت مسمى المساواة واللعب على وتر مشاعر عامَّة الناس.
وبناءً على ذلك، يمكن استنتاج عواقب هذه المساواة بعد طرح بعض الأسئلة المنطقية مثل: من الذي سيضع أسس هذه المساواة وما مدى كفاءته؟ ما المعايير أو الأسس التي سيضعها لتحقيق النتائج المتساوية بعيداً عن الدوافع العاطفية؟ ما مصير المبادرات الفردية إذا ما تحققت المساواة في النتائج وما نفع الحوافز عندئذٍ؟
تغييب الفروقات الفرديَّة بصورة تعسفية
تكمن مشكلة المساواة في النتائج في أنَّها تُغيّب الفروقات الفردية الموجودة بصورة اختلافات أو ميزات فيزيولوجية ونفسية وعقلية؛ وتتجاهل أنَّ لكلٍّ منا نقاط قوة ونقاط ضعف. في كتاب «IQ and the Wealth of Nations » أوضح المؤلفان Richard Lynn و Tatu Vanhanen ، الارتباط بين العرق ومعدل الذكاء من جهة، وبين معدل الذكاء ومستوى الدخل من جهة ثانية. وعلى الرغم مما تعرض له الكتاب من انتقادات لاحقة، إلا أنَّه أشار إلى نقطة مهمة جداً متعلقة بقضية المساواة؛ وهي أنَّ الفروقات الفردية واختلاف معدلات الذكاء يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار. فقد تفوق آسيويو الشرق في معدلات الذكاء وبالتالي في نصيبهم من الثروة أو الدخل بينما كان السود هم الأقل حظاً في الاثنين حسب ما جاء في الكتاب. إنَّ نقاش مثل هذا سيفتح النار على بادئه، لكن أخذ الإحصائيات بعين الاعتبار والتصرف وفقاً لها بمنهجية علمية وتفكير منطقي -بعيداً عن التلاعب بالعواطف- هو الأساس في تحقيق الإيجابيات الاقتصادية والاجتماعية على المدى البعيد.
قد يعترض البعض على ما سبق استناداً إلى فكرة أنَّ الذكاء مرتبط بالعوامل الجينية والظروف البيئية، كما أنَّه مرتبط بمستوى الرفاه المعيشي والاجتماعي؛ لذا لا يمكن تقييم الناس وفقَ معدلات ذكائهم التي لم يحددوها بأنفسهم أو يختاروها، وستكون المساواة في النتائج عندئذٍ طريقة ناجعة لتجاوز هذا الفارق الذي هو فوق إرادتهم. إلا أنَّ هذا الكلام غير مقبول في أي سياق عندما تُقدَّم فرص متساوية للجميع، ولا بدَّ من الانتباه لإمكانية العمل على القدرات وتطوير المهارات لكسب فرص جيدة؛ وهذا أمر وفرته التكنولوجيا الحديثة على طبق من ذهب. وقصص النجاح الفردية لأشخاص من انتماءات وأعراق مختلفة تثبت أنَّ الأمر مرتبط بالكفاءة والمجهود قبل أن يكون مرتبطاً بجعل الجميع متساوين في النتيجة أو الثروة.
(صورة توضح الارتباط بين معدلات الذكاء والناتج المحلي الإجمالي للفرد)
في المقابل، هناك فروقات فيزيولوجيَّة وجسديَّة بين الذكر والأنثى -على سبيل المثال- لا بدَّ من أن تؤخذ بعين الاعتبار. وهنا تظهر أهمية فكرة المساواة في الفرص بدلاً من المساواة في النتائج؛ إذ إنَّ المساواة في الفرص تتيح للجميع أن يتقدموا إلى وظيفة معينة لكنَّ البقاء للأجدر والأقدر على إثبات كفاءته بصرف النظر عن جنسه أو لونه؛ وبذلك يكون مستحقاً للفرصة والمكافأة.
اختفاء الحوافز والتقدير يعني مجتمعاً متهالكاً
النقطة الثانية التي يجب الإشارة إليها، هي غياب الحوافز والمبادرات الفردية عند تطبيق المساواة في النتائج، فما الدافع الذي سيكون لدي لتقديم عمل أفضل أو فكرة إبداعية أو خطة جديدة إن كان مرتّبي مماثلاً لمرتب مَن يلهو في أوقات العمل، وإن كانت مكانتي عند المدير مماثلة لمكانته؟ إنَّ المساواة في النتيجة والمساواة في التقدير ستقتل الرغبة في أي مجهود إضافي أو إنجاز جديد، وسيترتب على ذلك الدخول في حالة من الركود الفكري والجمود الإبداعي، فضلاً عن خلق أفراد مملين واتكاليين يعملون ضمن الحدود المرسومة لهم، ما يعني الوصول في نهاية المطاف إلى مجتمع متهالك.
في كتابها «أخلاق العناية» تقول فرجينيا هيلد: “إنَّ التصوُّرَ الليبرالي للفرد المكتفي ذاتياً يدفع الميسورين (الذين ينتمون لفئة أفضل مادياً) إلى تخيُّل -بصورة كاذبة- أنَّ الأشخاص الاعتماديين غير موجودين”.
الطريق إلى الشموليَّة:
لا يمكن تحقيق نتائج متساوية من دون قوة؛ أي من دون جهة تفرض هذا التعادل في الأجور وتوزيع الثروة. وبكل تأكيد ستكون هذه الجهة هي الحكومة وما تقرُّه من قوانين وضرائب وأساليب عمل جديدة؛ من خلال فرض ضرائب الدخل التصاعدية، التي تعني أنَّه كلَّما ازداد الدخل ازدادت معه الضريبة المفروضة؛ ويهدف ذلك إلى تأمين التمويل للمشاريع الضعيفة من ضرائب المشاريع الناجحة والكبرى، إلى جانب منع التوصية بالميراث ومصادرة الأموال والممتلكات بعد موت الشخص من قبل الجهات الحكومية. إلى جانب ذلك ستظهر الممارسات الاشتراكية التي أثبتت فشلها وجعلت من الدولة التي طبقتها في الحضيض، مثل: تأميم الاقتصاد ومصادرة الأراضي وإعادة توزيعها، وخدمات الرعاية الصحية المجانية التي تفرض زيادة حجم الضرائب من أجل تحقيق وعود المساواة وهذا يعني بدوره خلق حالة من التضخم العام والعجز عن الادخار وتقلص القدرات الشرائية عند الأفراد.
كل ما ذكرناه سابقاً هو تمهيد لتدهور اقتصادي عام من جهة، وتمهيد للشمولية من جهة ثانية. نعني بالشمولية هنا: فرض سيطرة الدولة (الحكومة) على جوانب المجتمع كافة، وتدخلها في الحياة الشخصية للأفراد بصورة قسرية. في كتابه «عواقب المساواة» يقول ماثيوس باتاليولي: “إنَّ الدولة -تحت شعار جعل الناس متساوين- ستبدأ بالتوسُّع في حجمها وأفق تحكمها مع وجود مقاومة ضئيلة، وفي النهاية سيقودنا ذلك إلى عصرٍ من الشمولية الذي سيرحب به عموم الناس بسعادة”.
فوضى الشعور بالاستحقاق:
إنَّ شعور الإنسان بأنَّه مظلوم سيدفعه -في أغلب الحالات- إلى الاهتياج والغضب وحالة من الانفعال المستمر، حتى لو كان هذا الشعور وهماً أو ناتجاً من فشله الشخصي لا من وقوع الظلم حقاً عليه. وممارسة دور الضحية تفرض عليه الرغبة في الثأر والانتقام؛ التي ستظهر في صورة مظاهرات عشوائية وأعمال تخريب تعسفية وثرثرة اعتباطية لا دافع حقيقي وراءها إلا محاولة تحقيق مكاسب شخصية من دون بذل مجهود، بل من خلال استعمال لهجة غير عقلانية وسرد بعض الأحلام الوردية المخالفة لسيرورة الواقع. بعدئذٍ -وتحت الضغوط العاطفية- ستنشأ منظمات بصفة إنسانية حقوقية شعارها الأول: “تحقيق المساواة وإعالة الفقراء”، لكن واقع معظم هذه الجمعيات والمنظمات يشير إلى خلاف الهدف المنشود؛ إذ تتحول إلى وسيلةٍ لنهب الأموال من القادرين مادياً وملء جيوب غير المستحقين وإشباع الغايات الشخصية من دون تقديم نفع حقيقي، وسيكون في انتظارنا فوضى اجتماعية وعمليات سرقة واحتيال سوَّغتها مُسبقاً انفعالات الحالمين والمثاليين وشعورهم بالاستحقاق.
وحرصاً منَّا على أن نكون حياديين في طرحنا لمفاهيم المساواة، سوف نستعرض بعض الانتقادات الموجهة إلى فكرة المساواة في الفرص.
في نقد المساواة في الفرص:
ينطلق المعترضون على هذه المساواة عادةً من فكرة أنَّ الشخص الذي ولد في عائلة ميسورة الحال، ستكون لديه -بطبيعة الحال- المؤهلات المادية والظروف المعيشية الجيدة التي ستمنحه لاحقاً فرصاً أفضل من الشخص الذي ولد في عائلة فقيرة ولا قدرة لديه على تحسين ظروفه أو تطوير إمكاناته. ونظراً إلى أنَّ تحصيلَ فرص أفضل مشروطٌ بوجود مؤهلات أفضل وصفات أعلى؛ فإنَّ تحقيق الشرط الأخير -وفي أغلب الحالات- يتطلَّب توفير ظروف مادية ومستوى معيشي أفضل حتى تُصقل هذه الصفات وتتبلور المؤهلات.
من جهة ثانية، يبني المعترضون نقدهم على فكرة أنَّ تكافؤ الفرص يستوجب تكافؤاً في النتائج بالضرورة؛ بمعنى أنَّك لتحقق تكافؤاً في الفرص بين الأجيال القادمة، فلا بدَّ من تطبيق مبدأ التكافؤ في النتائج على الأجيال الحالية. إذ إنَّ الأبناء سيحصلون على فرص متساوية عندما نمنح الآباء نتائج متساوية؛ أي دخلاً متساوياً أو ظروفاً معيشية متساوية في جودتها، التي ستمكّن بدورها الآباء من إعطاء أبنائهم ما يحتاجون إليه لتحسين قدراتهم وتطوير إمكاناتهم لاحقاً.
المساواة في الاستقلاليَّة الفردية؛ صيغة هجينة بين المساواتين:
وُضِعَت فكرة المساواة في الاستقلالية الفردية (المساواة في الحكم الذاتي) لأول مرة من قبل الاقتصادي الهندي Amartya Sen ، وهي فكرة استعملت في المجالين السياسي والاقتصادي؛ وتعني منح الأفراد المساواة في حق الاختيار وإدلاء الرأي وتقرير المصير، والمساواة في فرص التمكين لتطوير قدراتهم واستثمار مؤهلاتهم وبالتالي اتخاذ قرارات حياتية سليمة . تستند هذه الفكرة إلى التكافؤ المعنوي بين الناس بدلاً من التركيز على الجوانب المادية اليومية أو النتائج الاقتصادية. تتحقق هذه المساواة من خلال تأمين دعم متساوٍ للأفراد بمختلف انتماءاتهم وتوجههم، وتحقيق الاستقرار النفسي الذي يساعدهم في تقديم أفضل ما لديهم؛ ويكون ذلك بالرعاية الاجتماعية واحترام إنسانيتهم والاعتراف بالحق في الاختلاف من دون تحويله إلى شماعة للغايات الشخصية أو المآرب سياسية، فضلاً عن إقامة الأنشطة التي تحوّل مصادر الدخل المتاحة إلى فرص حقيقية ذات نفع على المدى البعيد لإعداد أفراد مستقلين فكرياً وقادرين على الإنجاز للنهوض بالمجتمع. ويتطلب ذلك مساعدة المؤسسات الحكومية والمنظمات الأهلية وفق خطط تعزز هذه الأهداف.
عارض أمارتيا صن في كتابه «الهوية والعنف» فكرة تصنيف البشر وفق انتمائهم الحضاري الذي قامت عليه نظرية صراع الحضارات، لأنَّ تصنيفاً كهذا هو اختزالٌ مسبق يُسوِّغ الصراع ويؤيد استمراره. يقول: “إنَّ الرؤية المسبقة لأي شخص باعتباره عضواً في حضارة ما، تختصر الناس وتسجنهم في هذا البعد الواحد”.
نعود إلى جوردن بيترسون ورأيه في المساواة في الفرص:
ينطلق بيترسون في تأييده لفكرة المساواة في الفرص من مبدأين:
- معارضة التسلسل الطبقي في المجتمع؛ بتقييم الناس بعيداً الهرمية التي ترفع من شأن البعض وتمنحهم امتيازات عن سواهم فقط لكون ينتمون إلى جنس، عمر، عرق، لون…الخ.
- ترك التنافس يأخذ مجراه من دون التدخل القسري فيه؛ ذلك التدخل الذي يهدف إلى فرض نتائج متساوية. “نريد مجتمعاً ديناميكياً يستطيع فيه الناس الصعود والهبوط وفقاً للعمليات التنافسية”. وبذلك يكون معيار القبول والرفض مؤسساً على الكفاءة والقدرة على الإنتاج. وإنَّ أي محاولة للتدخل في هذا التنافس ستلغي على المدى البعيد المواهب الفردية وستؤسس لمجتمع استبدادي تفرض فيه النتائج مسبقاً من قبل السلطة (الحكومات).
وانطلاقاً من الداروينية الاجتماعية Social Darwinism ، يمكن القول إنَّ وجود أنماط متنوعة من العلاقات الاقتصادية التي تحكم السوق هو ما يساهم بصورة أساسية في الحفاظ على ديناميكية الاقتصاد وحماية المجتمعات من الركود. ولا يمكن تطبيق النظريات المثالية الثابتة في عصر يحكمه التغيير كل يوم وكل لحظة؛ فالقيمة أو القانون الاجتماعي أو الاقتصادي الذي لا يدعم بقاء المجتمعات وتطورها لا بدَّ من أن ينقرض. وإنَّ وجود علاقات من التنافس والتعاون والتعايش هو ضرورة لا غنى عنها في الحياة الاجتماعية والمهنية بقدر ما هو ضرورة في الطبيعة. وعلى الرغم من قساوتها، إلَّا أنَّ فكرة إفساح المجال أمام المنافسة النظيفة هو عامل مهم لديمومة حركة الاقتصاد ومحفز على التطوّر الفردي والارتقاء الاجتماعي.
مقال متعوب عليه ومن الطراز الرفيع